تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة وماتوا على كفرهم {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} لا يقدرون على دفع ضُر نزل بهم، ولا جلب نفع لأنفسهم، وأنت العادل فيهم؛ لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}؛ أي: لمن تاب عن كفره منهم، ومات على الإيمان، فإن ذلك بفضلك ورحمتك {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يغالب في الانتقام ممن يريد الانتقام منه، لا يمتنع عليه ما يريده {الْحَكِيمُ} في أفعاله كلها الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.
قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يُستطعف السيد لعبده، ولهذا لم يقل: إن تعذبهم فإنهم عصوك، وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، ذكره "الشوكاني".
والمعنى: إن تعذب من أرسلتني إليهم فبلغتُهم ما أمرتني به من توحيدك وعبادتك، فضلَّ منهم من ضل، وقالوا ما لم أقله، واهتدى منهم من اهتدى فلم يعبدوا معك سواك .. فإنهم عبادك وأنت الرحيم بهم، ولست أنا ولا غيري من الخلق بأرحم بهم منك، وإنما تجزيهم بحسب علمك بما يظهرون وما يبطنون، فأنت العلم بالمؤمن المخلص في إيمانه، وبمن أشرك بك غيرك، أو بمن أطاعك وبمن عصاك، وأنت عالم الغيب والشهادة تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، وإن تغفر .. فإنما تغفر لمن يستحق المغفرة، وإنك أنت العزيز الغالب على أمره، الحكيم في تصرفه وصنعه، فيضع كل جزاء وكل فعل في موضعه.
وخلاصة المعنى: أنك إن تعذب .. فإنما تعذب من يستحق التعذيب، وإن تغفر .. فإنما تغفر لمن هو أهل لذلك، ومهما توقعه فيهم من عذاب .. فلا دافع له من دونك، ومهما تمنحهم من مغفرة .. فلا يستطيع أحد حرمانهم منها بحوله وقوته؛ لأنك أنت العزيز الذي يغلب ولا يغلب، ويمنع من شاء ما شاء ولا يُمنع، وأنت الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه، فلا يمكن أحدًا غيرك أن يرجعك عنه.
ومن هذا تعلم أن كلام عيسى عليه السلام لا يتضمن شيئًا من الشفاعة