وقال القاضي: إن قلت: لم عرّف النار هنا، ونكرّها في التحريم؟
قلت: لأنّ الخطاب في هذه السورة مع المنافقين، وهم في أسفل النار المحيطة بهم، فعرفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذين يعذّبون من عصاتهم بالنار يكونون في جزء من أعلاها. فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل: لأنّ تلك الآية نزلت في مكة قبل هذه، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة، فنكّرها ثمّ، وهذه نزلت بالمدينة، فعرفت إشارة إلى ما عرفوه أوّلا. وردّ هذا: بأنّ آية التحريم نزلت بالمدينة بعد هذه الآية التي هنا.
{الَّتِي وَقُودُهَا} وحطبها الذي توقد به {النَّاسُ}؛ أي: العصاة من الكفار وغيرهم. وقدم الناس على الحجارة؛ لأنّهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذّبون؛ أو لكونهم أكثر إيقاد للنار من الجماد، لما فيهم من الجلود، واللحوم، والشحوم، والعظام، والشعور؛ أو لأنّ ذلك أعظم في التخويف، فإنّك إذا رأيت إنسانا يحرق، اقشعرّ بدنك وطاش لبّك، بخلاف الحجر. {وَالْحِجارَةُ} أي: (١) حجارة الكبريت، وإنما جعل حطبها منها؛ لسرعة اتقادها؛ أي التهابها، وبطىء خمودها، وشدة حرها، وقبح رائحتها، ولصوقها بالبدن. أو الحجارة هي الأصنام التي عبدوها، وإنما جعل التعذيب بها؛ ليتحققوا أنهم عذبوا بعبادتها؛ وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزّها وعظمتها، قال تعالى:{إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، والكافر عبد الصنم، واعتمده، ورجاه، فعذّب به، إظهارا لجهله وقطعا لأمله، كأتباع الكبراء خدموهم، ورجوهم، وفي النار يسحبون معهم؛ ليكون أشق عليهم وأقطع لرجائهم.
فإن قلت: أنار الجحيم كلّها توقد بالناس والحجارة، أم هي نيران شتّى منها نار بهذه الصفة؟
قلت: بل هي نار شتّى منها: نار توقد بالناس والحجارة، يدلّ على ذلك