كانت عقيب ذلك الخروج الأول، وقيل: المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق والوحي، كثبوت إخراجك من بيتك بالمدينة بالحق والوحي، والحال: إنّ فريقا وطائفة من المؤمنين لكارهون ذلك الخروج.
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام - وفيها تجارة عظيمة ومعه أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام - فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران - بوزن سلمان وهو قريب من الصفراء - نزل عليه صلى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشار النبي أصحابه فقال:«ما تقولون؟ إنّ القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع - فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم ردد عليهم فقال:«إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل؛ أي: بجمع أهل مكة، ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام عند ذلك أبو بكر وعمر، فأحسنا في القول، ثم قال سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض كما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال:«أشيروا علي أيها الناس» فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبسطه قول سعد، ثم قال صلى الله عليه وسلّم:«سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».
وحاصل المعنى: أنّ الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من