{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} من الأوس والخزرج؛ أي: وممن هم نازلون في جوف المدينة، وداخلها أقوام {مَرَدُوا}؛ أي: ثبتوا واستمروا ومرنوا {عَلَى النِّفَاقِ} ولجوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه، ولم يتوبوا منه كعبد الله بن أبي، وأصحابه، ثبتوا على النفاق، ولم يتوبوا منه؛ أي: وكذلك من أهل المدينة نفسها، ناس منافقون من الأوس والخزرج، سوى من أعلم الله رسوله بهم، في هذه السورة، بما صدر منهم، من أقوال وأفعال تنافي الإيمان. هؤلاء الذين كانوا حول المدينة، وهؤلاء الذين كانوا من أهل المدينة، مرنوا على النفاق وحذقوه، حتى بلغوا الغاية في إتقانه، فلا يشعر أحد نفاقهم، إذ هم يتقون جميع الإمارات، والشبه التي تدل عليه. وجملة قوله:{لَا تَعْلَمُهُمْ}؛ أي: لا تعلم، أنت يا محمَّد، نفاقهم بفطنتك، ودقيق فراستك، لحذقهم في التقية، وتباعدهم عن مثار الشبهات مبينة للجملة الأولى وهي {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}؛ أي: ثبتوا عليه ثبوتًا شديدًا ومهروا فيه، حتى خفي أمرهم عليك يا محمَّد، فكيف سائر المؤمنين، والمراد عدم علمه، - صلى الله عليه وسلم - بأعيانهم، لا من حيث الجملة، فإنّ للنفاق دلائل لا تخفى عليه - صلى الله عليه وسلم -، وجملة قوله:{نحن نعلمهم} بأعيانهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت .. مقررة لما قبلها، لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق، ورسوخهم فيه، على وجه يختفي على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه، لعلمه بما يخفى، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.
وهؤلاء أخفى نفاقًا ممن قال الله فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وهؤلاء لم يعلمه الله بأعيانهم، ولا فضحهم بأقوال قالوها، ولا بأفعال فعلوها، كما فضح غيرهم، في هذه السورة؛ لأنهم يتحامون ما يكون شبهة في إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم، لا يعدوهم إلى سواهم.
والحكمة في إخبارنا بحالهم، أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله، كما فضح غيرهم، وليتوب منهم، من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله:{سَنُعَذِّبُهُمْ}؛ أي: سنعذب هؤلاء المنافقين في الحياة الدنيا {مَرَّتَيْنِ} أولاهما: ما يصيبهم به من