أصفهانيا، ركبته الديون فأفلس، فاضطر إلى الخروج فلحق بالشام، فلم يتيسّر له المقام، فدخل مصر، فرأى في ظاهرها حملا من البطيخ بدرهم، وفي سوقها بطيخة بدرهم، فقال في نفسه: إن تيسّر لي أداء الديون فهذا طريقه، فخرج إلى السواد فاشترى حملا بدرهم، فتوجه به إلى السوق، فكل من لقيه من المكاسين؛ أي: العشارين، أخذ بطيخة، فدخل البلد وما معه إلا بطيخة، فباعها بدرهم ومضى بوجهه، ورأى أهل البلد متروكين سدى، لا يتعاطى أحد سياستهم، وكان قد وقع بها وباء عظيم، فتوجه نحو المقابر، فرأى ميتا يدفن، فتعرض لأوليائه، فقال: أنا أمين المقابر، فلا أدعكم تدفنونه حتى تعطوني خمسة دراهم، فدفعوها إليه، ومضى لآخر وآخر، حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهر مالا عظيما، ولم يتعرّض له أحد قطّ، إلى أن تعرّض يوما لأولياء ميت، فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم، فأبوا ذلك، فقالوا: من نصبك هذا المنصب، فذهبوا به إلى فرعون؛ أي: إلى ملك المدينة، فقال: من أنت؟ ومن أقامك بهذا المقام؟ قال: لم يقمني أحد، وإنما فعلت ما فعلت؛ ليحضرني أحد إلى مجلسك، فأنبّهك على اختلال حال قومك، وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال، فأحضره، ودفعه إلى فرعون، فقال: ولّني أمورك ترني أمينا كافيا، فولاه إياها، فسار بهم سيرة حسنة، فانتظمت مصالح العسكر، واستقامت أحوال الرعيّة، ولبث فيهم دهرا طويلا، وترامى أمره في العدل والصلاح، فلما مات فرعون أقاموه مقامه، فكان من أمره ما كان، وكان فرعون يوسف عليه السلام ريّان، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة.
وقد روى المؤرخون: أنّ أول من دخل مصر من بني إسرائيل، يوسف عليه السلام، وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة، نحو: ستمائة ألف، حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد، ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستن لهم، ويكلفهم شاقّ الأعمال في مختلف المهن، والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم، لا يشركون المصريين. في شيء، ولا يندمجون في غمارهم إلى ما لهم من أنانية، وإباء، وترفع على