والجهة الثانية: ما ذكره بقوله {وَمَا نَرَاكَ} يا نوح {اتَّبَعَكَ}، وأطاعك في دعوتك {إِلَّا} الأقوام {الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وأخساؤنا كالحجَّامين والنساجين والأساكفة، ولم يَتْبَعْكَ أحد من الأشراف، فليس لك علينا مزية باتباع هؤلاء الأراذل لك، وانتصاب {بَادِيَ الرَّأْيِ} على الظرفية، والعامل فيه اتبعك؛ أي: اتبعوك في ظاهر رأيهم، وابتداء فكرهم من غير تعمق، ولا تأمل فيه، ولو احتاطُوا في الكفر ما اتبعوك؛ أي: وإنَّا لم نَرَ متبعيك إلّا الأَخساء والفقراء كالزراع والصناع، ومن في حكمهم في المكَانَة الاجتماعية باديَ الرأي قبل التأمل في عواقبه، والنظر في مستنده، وترجيح العقل له، وهذا مما يرجِّح ردَّ الدَّعوة، والتولي عنها.
والجهة الثالثة من جهات طعنهم في نبوته: ما ذكره بقوله: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}؛ أي: لا نرى لك، ولمن اتَّبعك من الأراذل فضْلًا علينا لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجَدَل تتميزون به عنا، وتستحقون به ما تدعونه، خاطبوه في الوجهَين الأولَين منفردًا، وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه.
والمعنى: وما نَرى لك، ولمن اتبعك أدْنَى امتياز عنا من قوة أو كثرة علم، أو أصالة رَأي يَحْمِلُنا على اتباعكم، ويَجْعَلُنا ننزِل عن جاهِنا ومالِنا، ونكون نحنُ وأنتم سواءَ، ثم أضرَبوا عن الثلاثةِ المَطَاعن، وانتقلوا إلى ظنهم المجرد عن البرهان، الذي لا مستندَ له إلا مجردَ العصبية، والحسد، واستبقاءَ ما هم فيه من الرياسة الدنيوية، وهذا هو الجوابُ الرابعُ فقالوا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} فيما تدَّعُون؛ أي: بل إنَّا نُرَجِّحُ الحكم عليك، وعليهم بالكذب، فأنت كاذب في دعوى النبوة، وهم كاذبون في تَصْدِيقك؛ أي: بل نَظَنُّك يا نوح كاذبًا في دعوى النبوة، ونظن أصحابكَ كَاذِبينَ في تصديق نبوتك.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي (١): {بادئ الرأي} من بَدأ يبدأ، ومعناه: