للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وحده، ولا تشركوا به شيئًا من الأصنام فـ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}؛ أي: لأنه ليس لكم إله سوى اللَّه تعالى، وقد جرَتْ سنة الأنبياءِ أن يَبْدؤوا بالدعوةِ إلى التوحيد؛ لأنه جِذْرُ شجرة الإيمان. ثمَّ يَتْبِعُونَه بالأهمِّ فالأهمِّ فيما يرون لدى أقوامهم، ومن ثم ثنى بالنهي عن نقص الكيل والميزان؛ لأنَّ أهْلَ مَدْينَ اعتادوا ذلك فقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}؛ أي: آلة (١) الوزن والكيل، وكان لهم مكيالان، وميزانان: أحدُهما أكبَرُ من الآخر، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون بالأكبر، وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخْسِرونَ بالأصغر، والمراد لا تنقصوا حَجْمَ المكيال عن المعهود، وكذا الصنجات كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس. ويجوز أن يكونَ من ذكر المحل، وإرادة الحال، فإذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائدٍ، وكذلك إذا وصل إليهم الموزونُ، أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا .. باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص، وكل من البَخْسَين شائع في هذا الزمان أيضًا كأنه ميراث من الكفرة الخائنين. وجملة قوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي؛ أي (٢): لا تنقصوا المكيالَ، والميزان لأني أراكم بخير؛ أي: متلبسين بثروة وسعة في الرزق تغنيكم عن التطفيف، فلا تغيروا نعمةَ الله عليكم بمعصيته، والإضرار بعباده. ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها مما تنقصون لهم من المبيع في مكيل أو موزون، وكانوا تُجَّارًا مطففينَ إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصونَ المكيالَ والميزان. أَلاَ إنَّ في هذا كفرانًا لنعمة الله عليكم، إذ كان يجب عليكم شكرانها بالزيادة على سبيل الصدقة والإحسان.

ثمَّ ذكَرَ بعد هذه العلة، علَّةً أُخرى، فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ} وأخشى {عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}؛ أي: يومًا يُحيط بكم عذابه، لا يشُذ منه أحدٌ منكم، إذا أنتم أصررتم على شرككم بالله بعبادة غيره، وكفرتم بنعمه بنقص المكيال والميزان. وهذا العذاب إما في الدنيا بعذاب الاستئصال، وإمَّا في يوم


(١) روح المعاني.
(٢) الشوكاني.