للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

متصرفين، في أطرافها مترددينَ متقلبينَ في أكنافها. ثم دعا عليهم فقال: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ}؛ أي: هلاكًا لأهل مدين، وبعدًا من رحمة الله تعالى {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}؛ أي: كما هلكت من قبلهم ثمود، وبعدت من رحمة الله تعالى بإنزال سَخَطِه بهِم، شَبَّه هلاكهم بهلاكهم, لأنهما أُهلِكَتَا بنوع من العذاب وهو الصيحة كما مرَّ آنفًا.

والخلاصة (١): أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أرسلَ على كل من ثمود ومدين صاعقةً ذاتَ صوت شديد، فرجَفَتْ أرضها، وزلزلت من شدتها، وخروا ميتين، وكانت صاعقتهما أشد من الصاعقة التي أخذَتْ بني إسرائيل حين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}. وقد أحياهم الله تعالى عَقِبَها؛ لأنَّ هذه تربية لقوم بني إسرائيل في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذابَ خزي لمشركينَ ظالمينَ معاندِينَ أنجى الله نبِيَّ كل منهما، ومؤمنيهما قبلها. وقرأ أبو (٢) عبد الرحمن السلمي، وأبو حيوة: {كما بَعُدت} بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب. والجمهور بكسرها. أرادت العرب: التفرقةَ بين البعد من جهة الهلاك، وبين غَيره فغيَّروا البناءَ. وقرأه السلمي جاءت على الأصل اعتبارًا لمعنى البُعْدِ من غير تخصيص، كما يقال: ذَهَبَ فلان ومَضَى، في معنى القرب.

وفي الآية (٣) إشارة إلى أن الكفرةَ وأهلَ الهوى، أفسدوا الاستعدادَ الروحانيَّ الفطريَّ، في طلب الدنيا، واستيفاء شهواتها، والاستكبار عن قبول الحق والهدى، وأدَّى تمردهم عن الحق، وتماديهم في الباطل إلى الهلاك صورةً ومعنًى. وأما صورة فظاهرٌ. وأما معنى: فلأنهم أبعدوا عن جوار الله وطيب العيش معه إلى أسفلِ سافلي القطيعة فبَقَوا في نار الفرقة، لا يحيون، ولا يموتونَ، وما انتفعوا بحياتهم فَصاروا كالأموات، وكما أنَّ الصيحةَ من جِبْرِيلَ أهلكتهم فكذا النفخة من شعيب أحيَتْ المؤمنينِ لأنَّ أَنْفَاس الأنبياء، والأولياء كنفخ إسرافيل في الأحياء إذا كان المحلُّ صالحًا لطرح الروح فيه كجسد


(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.