للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والأخلاق، فإنَّ الاستقامةَ في العقائد اجتناب التشبيه، والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة، والنقصان، وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط، وهذا في غاية العسر؛ أي؛ إذا تبين عندك يا محمَّد أحوال القرون الأولى، وأن إخوانَك الأَنبياء، ومؤمنيهم تحملوا من قومهم الأذى، وصبروا، واستقاموا على طريقتهم المثلى إلى أن يأتِيَ أمر الله تعالى، فأقولُ لك دُم أنت أيضًا على الاستقامة على التوحيد، والدعوة إليه كما أمركَ اللَّهُ تعالى فيَدْخُلْ في ذِلك جميع ما أمره به، وجميع ما نهاه عنه؛ لأنه قد أَمَره بِتَجَنُّبِ ما نهاه عنه كما أَمَره بفعل ما تعبّده بفعله، وأمته أسوة في ذلك. ولهذا قال: {وَمَن تَابَ مَعَكَ}؛ أي: رَجَعَ من الكفر إلى الإِسلام، وشاركَكَ في الإيمان, وهو معطوف على الضمير في {فَاسْتَقِمْ} لأنَّ الفَصَل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقامَ التأكيد؛ أي: وليستَقِمْ مَنْ تاب معك. ومَا أعظمَ مَوْقِعَ هذه الآية، وأشدَّ أمرها، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهَّرةُ والذواتُ المقَدَّسة. ولهذا يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "شيبتنِي هود"؛ أي (١): ومَنْ تاب من الشرك، والكفر، وشارَكَك في الإيمان, هو المعني بالمعية، وإلا فليس لهم مصاحبة له في التوبة عما ذكر؛ إذ الأنبياء مَعْصُومون عن الكفر، وكذا عن تعمد الكبائر قبل الوحي، وبعده بالإجماع. {وَلَا تَطْغَوْا}؛ أي: ولا تَنْحَرِفوا عما حدَّ لكم بإفراط، وتفريط، فإنَّ كِلاَ طرفي قصد الأمور ذميم، وإنما سمِّي ذلك طغيانًا، وهو تجاوز الحد، تغليظًا أو تغليبًا لحال سائر المؤمنين على حاله - صلى الله عليه وسلم -. والطغيان (٢) مجاوزة الحد. ولَمَّا أمَرَ الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بَيَّن أن الغلوَّ في العبادة، والإفراطَ في الطاعة، على وجه تخْرج به عن الحد الذي حدَّه، والمقدار الذي قدَّره ممنوع منه منهي عنه، وذلك كمن يصوم ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام، ويترك الحلالَ الذي أَذِنَ الله به، ورغَّب فيه. ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه: "أمَّا أَنَا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأنكح النساءَ فمَن رَغِبَ عن سنتي فليس مني". والخطاب للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأمته تغليبًا لحالهم على


(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.