للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الدين والإيمان, والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مَظْهرًا لأسرار خلقه الروحية، والجسدية، أو المادية، والمعنوية، فإنه جعل مصيرَ أهل الباطل إلى النار، ومصيرَ أهل الحق إلى الجنَّة. وقال ابن عباس: خَلَقهم في فَرِيقَيْنِ فريق يرحم فلا يختلف، وفريق لا يرحم فيختلفُ، فذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.

والخلاصة (١): أن الناس فريقان: فريق اتفقوا في الدين، فجعلوا كتابَ الله حَكَمًا بينهم فيما اختلفوا فيه، فاجتمعت كلمتهم، وكانت أمة وَاحِدَةً فرحمهم الله تعالى، ووقاهم شرَّ الاختلاف في الدنيا، وعذابَ الآخرة. وفريق اختلفوا في الدين كما اختلفوا في منافع الدنيا، فكان بأسهم بَيْنَهم شديدًا، فذاقوا عقابَ الاختلاف في الدنيا، وأعقبه جزاؤهم في الآخرة، فحُرموا من رحمة الله بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه تعالى لهم.

فإن قلت: يعارض ما هنا أعني قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، قولَه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)}.

قلت: لا معارضة بَينَهما, لأنَّ ما هنا خَلَقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} معناه: ما خلقتهم إلا للأمر بالعبادة، وبهذا يزول الإشكال، تأمل.

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}؛ أي: ثبت (٢) قول ربك يا محمَّد للملائكة: وعزتي وجلالي {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}؛ أي: لأجعلنها ملأى حتى تقول قط قط بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث. وذلك بعد أن تمد أعناقَهَا، وتطلب الزيادة ليتجلى عليها بصفة الجلال، فتخضع وتذل وتقول: قَطْ قَطْ. {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}؛ أي: من عصاتهما {أَجْمَعِينَ} لتأكيد العموم للنوعين، وإذا تمت وثَبَتَتْ امتنعَت من التغيير والتبديل؛ أي: قد سبق في قضائه وقَدَرِه وحكمته النافذة أن من خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النارَ، وأنَّ النارَ لا بد أن تملأَ من عالمي الجن


(١) المراغي.
(٢) المراح.