من معاناة المشاقِّ، ومقاساة الأحزان، وإن كانَ واثقًا من الله تعالى بأن سيحقق ذلك لا مَحَالَةَ وطَمَعًا في حصوله بلا مشقَّة:{يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ}؛ أي: لا تُخْبِرَ مَنَامَكَ كُلًّا، أو بعضًا، ولا تطلعها {عَلَى إِخْوَتِكَ}، وهم بَنُو علاته العشرة، كما هو المشهور، وأما شقيقه بنيامين فهو حادي الأحد عشر في الرؤيا، وإن لم يكن ممن تخشى مَضرَّتهُ، وكيدُه ليوسف {فَيَكِيدُوا لَكَ}؛ أي: فيفعلوا لأجلك، ولإهلاكك {كَيْدًا} خَفِيًّا عن فهمك لا تقدر على مدافعته، وهذا أوفق بمقام التحذير، وإن كانَ يعقوبُ يعلم أنهم ليسوا بقادرينَ على تحويلِ ما دلت الرؤيا على وقوعه. والكيد: الاحتيال للاغتيال، أو طَلَبُ إيصال الشر بالغير وهو غَيْرُ عالم به.
وحاصل المعنى: أي قال يوسف لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ والقَمَرَ لي سجَّدًا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام تثِيرُها في النوم الهواجسُ والأفكار، وأنَّ يوسُفَ سَيَكُون له شأن عظيم، وسلطان يسود به أهلَه حتى أباه وأمه، وإخوته، وخَافَ أن يَسْمَعَ إخْوَتُهُ ما سمعه، ويفهموا ما فَهِمَه فيحسدوه، ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثمَّ نَهاه أن يقصَّ عليهم رؤياه، كما دل على ذلك قوله:{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}؛ أي: لا تخبر إخوتَك بما رأيتَ في منامك، خِيفَة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير، يحكمونه بالتفكير، والرؤية، ثم بَيَّن السببَ النفسيَّ لهذا الكيد بقوله:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}؛ أي: إنَّ الشيطانَ عدو لآدم وبنيه، قد أظهرَ لهم عداوتَه، فاحذَر، أن يُغريَ إخوتك بك بحسدهم لَكَ، إن أنْتَ قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينزغَ بَيْنَ الناس حين تعرض له داعية من هوى النفس، ولا سِيّما الحسد الغريزي في فطرة البشر، وقد أرْشَدَ إلى هذا يوسف بقوله:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.
وهذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ يوسفَ قال: كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة. فقيل: إنَّ الشَّيْطَانَ ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك، ولأبناءِ جنسك إذ أخرج أبويكم آدم وحواء من