فضمنوا لهذين الغلامين مالًا على أن يَسُمَّا المَلِكَ في طعامِه وشرابِه، فأجابا إلى ذلك، ثمَّ إنَّ الساقيَ ندم، فرجَعَ عن ذلك، وقَبِلَ الخبَّازُ الرَّشْوةَ، وسَمَّ الطعامَ. فلما حضر الطعامُ بين يدي الملك قال السَّاقي: لا تأكل أيها الملك، فإنَّ الطَّعامَ مسموم. وقال الخبَّاز: لا تَشْرَبْ فإنَّ الشَّرَاب مسموم. فقال للساقي: إِشْرَبْ، فَشَرِبَه به فلم يضره. وقال للخباز: كل من طعامك، فأَبَى. فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت. فأمر الملك بحبسهما فحبسَا مع يُوسُفَ. وكان يُوسُفُ لما دخَلَ السِّجْنَ جَعَل ينشر علمه، ويقول: إني أعبِّر الأحلامَ فقال أحد الغُلامين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني، فتَرَائيَا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رَأيَا رؤيا حقيقةً.
قال ابن مسعود: ما رأيا شيئًا إنما تحالما لِيُجَرِّبا يُوسُفَ، وقال قوم: بل كانَا قد رأيا رؤية حقيقةً فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألَهما عن شأنهما، فذَكَرا أنهما غُلامانِ للملك، وقد حبَسهما، وقد رَأَيا رؤيا قد غمتهما، فقال يوسف قصَّا عليَّ ما رأيتما فقصا عليه ما رأياهُ. فذلك قولُه تعالى:{قَالَ أَحَدُهُمَا}؛ أي: أحد الفتيين، وهو صاحب شراب الملك، اسمه سَرْهَم، أو مَرْطَش؛ أي: قال أحَدُهما ليوسف: {إِنِّي أَرَانِي}؛ أي: رأيت نفسي {أَعْصِرُ خَمْرًا}؛ أي: أعصِرُ عِنَبًا، فيصيرُ خَمرًا، وأسقِي المَلِكَ. وسمَّى العِنَبَ خَمَرًا باعتبار ما يؤول إليه. إذ الخَمْرُ لا يُعْصَرُ. وقيل: إنَّ عَربَ غسان وعُمَان يسمون العِنَبَ خَمْرًا. رُوي أنه قال: رأيت حَبْلَةً من كرم حسنةً، لها ثلاثة أغصان، فيها عناقيدُ، فكنت أعصرها، وأسقي. وقرأ أبي وعبد الله:{أعصر عنبًا} وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سَوادَ المصحف، والثابتُ عنهما بالتواتر قرائتهما:{أَعْصِرُ خَمْرًا}. وفي مصحف عبد الله:{فوق رأسي ثَرِيدًا تأكل الطير منه} وهو أيضًا تفسير لا قراءة ذكره في "البحر".
{وَقَالَ الْآخَرُ} وهو الخباز، واسمه بُرْهَمُ، أو رَأْسَانُ {إِنِّي أَرَانِي}؛ أي: رأيت نفسي كأني {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}؛ أي: من ذلك الخبز. وفوق بمعنى على؛ أي: على رأسي. ومثله:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} كما في