للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الإيمان باللهِ وترك عبادة الأوثان. وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل طلب ذلك لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ترغيبًا فيما يرومه، وتنشيطًا لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه، وجعلها منوطة به، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن طلب الولاية، والمنع من تولية من طلبها، أو حرص عليه.

وحاصل المعنى: فلما كلم الملك يوسف قال الملك في كلامه ليوسف: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}، فماذا (١) ترى أيها الصديق؟ {قَالَ} يوسف: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعًا كثيرًا، وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام، فإذا جاءت السنون المجدبة .. بعنا الغلات، فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك، ومن لي بهذا الشغل؟ فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}؛ أي: ولني أمر خزائن أرض مصر {إِنِّي حَفِيظٌ} لما وليتني، ولجميع مصالح الناس {عَلِيمٌ} بوجوه التصرف في الأموال، وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني. وقيل معنى {حَفِيظٌ}: كاتب {عَلِيمٌ}: حاسب.

والخلاصة: (٢) وَلِّني خزائن أرضك كلها، واجعلني مشرفًا عليها لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل.

ثم ذكر سبب طلبه، فقال: {إِنِّي حَفِيظٌ}؛ أي: شديد الحفظ لما يخزن فيها، فلا يضيع شيء منه، أو يوضع في غير موضعه {عَلِيمٌ} بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به. فإن قلت: كيف مدح يوسف عليه السلام نفسه بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، والله تعالى يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}.

قلت: إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوصل به إلى غير ما يحل، فهذا هو القدر المذموم في تزكية النفس. أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير .. فلا يكره ذلك ولا يحرم، بل


(١) المراح.
(٢) المراغي.