للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

شديد حزني وهمي {وَحُزْنِي}؛ أي: وقليل حزني {إِلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى ملتجئًا إلى جنابه متضرعًا لدى بابه في دفعه. وقد (١) ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب .. كان ذلك حزنًا، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثًا، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه. والحزن (٢): أعم من البث، فإذا عطف على الخاص يراد به الأفراد الباقية، فيكون المعنى: لا أذكر الحزن العظيم والحزن القليل إلا مع الله، لا مع غيره من الناس. وقيل: البث الهم، وقيل: هو الحاجة. وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى. وقرأ الجمهور: {حُزْني} - بضم الحاء وسكون الزاي -. وقرأ (٣) الحسن وعيسى: {وحَزَني} - بفتحتين -. وقرأ قتادة بضمتين، وما عدا قراءة الجمهور شاذ.

فإن قيل (٤): لِمَ قال يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، ثم قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، وقال: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}؟ فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟

قيل: ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها، وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} لأنه شكا منه إليه، وبكى منه عليه، فهو المعذور لديه؛ لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير، وترك الركون إلى الغير، وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة:

كُلُّ شَيءٍ مِنَ الملِيْحِ مَلِيْحُ ... لَكنِ الصَّبْرُ عَنْهُ غَيْرُ مَلِيْحِ

وقيل أيضًا:

وَالصَّبْرُ عَنْكَ فَمَذْمُوْمٌ عَوَاقِبُهُ ... وَالصَّبْرُ فِي سَائرِ الأَشْيَاءِ مَحْمُوْدُ

وذلك لأن المحب لا يصبر عن حضرة المحبوب، فلا يزال يعرض حاله


(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.