أنّه (١) لمَّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه؛ لأنَّ دينهم أقرب الأديان إلى دينهم، في تعاليمهم، ومبادئه، وأغراضه، فهم شركوهم في الاعتقاد بالتوحيد، والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدّقٌ لما معهم.
قصَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم، ما أزال به أطْماعهم وإياسهم من إيمانهم، بذكر ما يحدث من أسلافهم مع نبيِّهم موسى عليه السلام بَيْنَ آنٍ وآخر، من تمرُّدٍ وعنادٍ، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تِلْو الآية، ويحلُّ بهم من العقاب ما هم له أهلٌ، فيطلبون من موسى أن يدعو الله، ليرفع عنهم العذاب ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له: لا نصدِّق بك، ولا نطيع أوامرك حتى نسمع كلام الله، ومناجاته إيّاك، فاختار موسى بأمر الله تعالى، سبعين رجلًا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته حيث يناجي ربَّه، فسمعوا كلامه بطريقٍ نحن لا نعرفها، ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربَّه، وسمعوا أوامره ونواهيه.
ثمَّ كان منهم أن حرَّفوا كلام الله الذي حضروا وحيه، وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبتٌ عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدَّس. فلا عجيب إذًا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئتَ به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم، ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرِّفون، ويبدّلون، ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسّية تَتْرى بين يدي موسى عليه السلام، فأَحْرِ بهم أن يَجْحَدُوا دينًا دلائله عقليَّةٌ، وآياته الكبرى معنويَّةٌ، وهو القرآن الكريم، بِمَا اشتمل عليه من تشريعٍ فيه سهولةٌ وتيسيرٌ للناس، وفيه فصاحةٌ أعجزت فُصحاءَ العرب عن محاكاته، لجأُوا إلى السيف والسِّنان، بعد أن أعجزتهم الحجَّة والبرهان، ثم ذكر حالًا أخرى لعلمائهم هي: أنَّ علماءهم وقعوا في الحيرة