ممكن، والله سبحانه مكَّن المكلَّف من تحصيل أيّتهما شاء وأراد، فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما، فقد فوَّت الأخرى على نفسه، فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتابهم، وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا، كالبيع والشراء، وذلك من الله نهاية الذمِّ لهم؛ لأنَّ المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذمومٌ، فأنْ يُذَمَّ مشتري الدنيا بالآخرة أولى، فعلى العاقل أن يرغب في تجارة الآخرة، ولا يركن إلى الدنيا ولا يسفك دمه بامتثال أوامر الشيطان في استجلاب حظوظ النفس، ولا يخرج من ديار دينه التي عليها في الأصل الفطرة، فإنَّه إذًا يضِلُّ ويشقى.
قال أبو حيان: وقد تضمّنت (١) هذه الآيات الكريمة من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} إلى هنا، إخبار الله تعالى، أنّه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة لله تعالى، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنّهم نقضوا الميثاق بتولِّيهم، وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا، والتزموا ذلك، فإن الميثاق الأول يتضمَّن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمَّن النواهي؛ لأنَّ التكاليف الإلهيّة مبنيَّةٌ على الأوامر والنواهي، وكان البدء بالأوامر آكد؛ لأنّها تتضمَّن أفعالًا والنواهي. تتضمَّن تُروكًا، والأفعال أشقُّ من التروك، وكان من الأوامر: الأمر بإفراد الله بالعبادة وهو رأس الإيمان، إِذ مُتعلَّقه أشرف المتعلَّقات، فكان البدء به أولى، ثمَّ نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدَّم إخباره أنَّهم خالفوا في الأوامر بقوله:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} لأنَّ فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات؛ لأنَّها تروك، كما ذكرنا.
ثمّ قرَّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنّهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان، ثمَّ ذكر تناقض آرائهم، وسخف عقولهم بفداء من أتى إليهم