للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثمّ اعلم: أنَّ السبب في هذه الضلالة، وهي نسبة الولد إلى الله تعالى، والقول بأنّه اتخذ ولدًا؛ أنَّ أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على الباري تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى قالوا: إنَّ الأب هو الربُّ الأصغر، وإنّ الله تعالى هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنّه تعالى هو السبب الأوّل في وجود الإنسان، وأنَّ الأب هو السبب الأخير في وجوده، فإنَّ الأب هو معبود الابن من وجهٍ؛ أي: مخدومه، ثم ظنت الجهلة منهم أنَّ المراد به: معنى الولادة الطبيعية، فاعتقدوا ذلك تقليدًا ولذلك كفر قائله، ومنع منه مطلقًا؛ أي: سواءٌ قصد به معنى السببية، أو معنى الولادة الطبيعية؛ حسمًا لمادة الفساد. واتخاذ الحبيب أو الخليل جائزٌ من الله تعالى؛ لأنّ المحبّة تقع على غير جوهر المحبِّ، قالوا: أوحى (١) الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: ولَّدتك، أي أوجدتك بلا والدٍ، وأنت نبيٌّ، فخفَّف النصارى التشديد الذي في ولَّدتك؛ لأنه من التوليد وصحفوا بعض إعجام النَّبيِّ بتقديم الباء على النون، فقالوا: ولدتك وأنت بُنيَّ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون؟! وقال تعالى: يا أحباري! ويا أبناء رسلي! فغيَّره اليهود، وقالوا: يا أحبائي! ويا أبنائي! فكذَّبهم الله تعالى بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فالله سبحانه منزَّه عن الحدود والجهات، ومتعالي عن الأزواج، والبنين والبنات، ليس كمثله شيء في الأرض ولا في السموات، وفي الحديث الصحيح كما مرَّ لك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: (كذَّبني ابن آدم)، أي: نسبني إلى الكذب (ولم يكن له ذلك)؛ أي: لم يكن التكذيب لائقًا به، بل كان خطأً (وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمَّا تكذيبه إيّايَ، فزعم أن لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمَّا شتمه إيّاي، فقوله: لي ولدٌ، فسبحاني أن أتخذ صاحبةً أو ولدًا) وإنّما كان هذا شتمًا؛ لأنّ التولُّد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو، وهذا إنّما يكون في المركَّب، وكُلُّ مركّب محتاجٌ.

فإن قلت: قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} تكذيبٌ أيضًا؛ لأنّه تعالى أخبر أنّه لا


(١) روح البيان.