وفي رواية عن ابن عباس: هي أمانات الناس، والوفاء بالعود، فحقٌّ على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء، لا في قليل ولا كثير، فعرض الله تعالى هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين، وأكثر السلف. فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن .. جوزيتن، وإن عصيتن .. عوقبتن، قلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشيةً وتعظيمًا لدين الله تعالى أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة لأمره. وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا، لو ألزمهن لم يمتنعن من حملها. والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل، مطيعة لأمره، ساجدة له.
قال بعض أهل العلم: ركب الله تعالى فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة، حتى عقلن وأجبن بما أجبن. وقيل: المراد من العرض على السموات والأرض والجبال: هو العرض على أهلها من الملائكة دون أعيانها. والقول الأول أصح. وهو قول أكثر العلماء.
وقوله:{إِنَّا} هذه النون (١) نون العظمة والكبرياء عند العلماء، فإن الملوك والعظماء يعبِّرون عن أنفسهم بصيغة الجمع، ونون الأسماء والصفات عند العرفاء. فإنها متعددة ومتكثرة {عَرَضْنَا}؛ أي: أظهرنا وأبرزنا {الْأَمَانَةَ}؛ أي: التكاليف الشرعية {عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} على أنَّ من أداها فله الثواب، ومن لم يؤدِّها .. فله العقاب. وكان هذا العرض عرض تخيير، لا عرض إلزام {فَأَبَيْنَ}؛ أي: فامتنعت السموات والأرض والجبال عن قبولها على هذا الشرط المذكور. والإباء: شدة الامتناع، فكل إباء، امتناع، وليس كل امتناع إباءً.
وأتى بضمير هذه كضمير الإناث؛ لأن جمع التكسير غير العاقل يجوز فيه ذلك، وإن كان مذكرًا، وإنما ذكرنا ذلك لئلا يتوهم أن قد غلَّب المؤنث، وهو السموات على المذكر، وهو الجبال.
واعلم: أنه لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: {أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ