السَّاجِدِينَ}؛ لأن السجود كان هناك فرضًا، وهاهنا الأمانة كانت عرضًا، والإباء هناك كان استكبارًا، وهاهنا كان استصغارًا لقوله تعالى:{وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}؛ أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها. اهـ "فتوحات".
{وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}؛ أي: وخفن من الأمانة وحملها، وقلن: يا رب، نحن مسخرات بأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، ولم يكن هذا القول منهن من جهة المعصية والمخالفة، بل من جهة الخوف والخشية من أن لا يؤدين حقوقها، ويقعن في العذاب، ولو كان لهن استعداد ومعرفة بسعة الرحمة، واعتماد على الله تعالى لما أبين.
فإن قلت (١): ما ذكر من السموات وغيرها جمادات، والجمادات لا إدراك لها، فما معنى عرض الأمانة عليها؟
قلت: للعلماء فيه قولان:
الأول: أنه محمول على الحقيقة، وهو الأنسب بمذهب أهل السنة؛ لأنهم لا يؤولون أمثال هذا، بل يحملونها على الحقيقة خلافًا للمعتزلة وهو القول الثاني. وعلى تقدير الحقيقة فيه وجهان: أحدهما أدق من الآخر:
الوجه الأول: أن للجمادات حياةً حقانيةً دلَّ عليها كثير من الآيات، نحو قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}، وقوله:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، وقوله:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إلى غير ذلك.
والوجه الثاني: أن الله تعالى ركَّب العقل والفهم في الجمادات المذكورة عند عرض الأمانة، كما ركب العقل، وقبول الخطاب في النملة السليمانية، والهدهد، وغيرهما من الطيور والوحوش والسباع، بل وفي الحجر والشجر والتراب، فهن بهذا العقل والإدراك سمعن الخطاب، وأنطقهن الله بالجواب، حيث قال لهن: أتحملن هذه على أن يكون لكُنَّ الثواب والنعيم في الحفظ والأداء، والعقاب في