والمعنى (١): ثم أورثنا الذين اصطفيناهم واختارناهم من عبادنا هذا الكتاب الذي هو القرآن؛ أي: قضينا وقدّرنا في سابق علمنا بأن نورّث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم واستخلاصهم، ولا شكّ أنّ علماء هذه الأمة من الصحابة، فمن بعدهم قد شرفهم الله تعالى على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء، سيّد ولد آدم، قال مقاتل: يعني قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا، وقيل: إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة؛ أي: أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى.
وهذه الأمة اصطفاهم الله تعالى على سائر الأمم، كما اصطفى رسولهم على جميع الرسل، وكتابهم على كل الكتب، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن، بل يشمل من يحفظ منه جزءًا، ولو أنه الفاتحة، فإن الصحابة رضوان لله عليهم أجمعين لم يكن واحد منهم يحفظ جميع القرآن، ونحن على القطع بأنهم مصطفون.
ولما كانت الوراثة بالسبب والنسب، وكان السبب جنسًا واحدًا، كالزوجية، وهما صاحبا الفرض، وكان النسب من جنسين: الأصول كالآباء والأمهات، والفروع كل ما يتولّد من الأصول كالأولاد والأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم، وهم صاحب فرض وعصبية، فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف: صنف صاحب الفرض بالسبب، وصنف صاحب الفرض بالنسب، وصنف صاحب الباقي وهم العصبة، كذلك الورثة هاهنا ثلاثة أقسام، كما قال تعالى:{فَمِنْهُمْ}؛ أي: فمن الذين اصطفينا من عبادنا {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بما عمل من الصغائر؛ لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع صاحبه من دخول الجنة مع الذين يدخلون الجنة، يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي، ووجه كونه ظالمًا لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات .. لكان لنفسه فيها من الثواب حظًا عظيمًا، وهذا القول هو الراجح، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة،