الله تعالى تعظيمًا لولدها وتجهيلًا لها بقدر ذلك الولد:{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَعْلَمُ} بقدر {بِمَا وَضَعَتْ}؛ أي عالم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسنُ وأفضل من الذكر، وهي غافلة عن ذلك، فلذلك تحسرت، وكانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهن، وهذا المعنى على قراءة من قرأ بسكون التاء، وهي قراءة الجمهور، فيكون من كلام الله تعالى على جهة التعظيم لما وضعته، والتفخيم لشأنه والتجليل لها؛ حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين، وعبرة للمعتبرين، ويخصها بما لم يخص به أحدًا.
وقرأ أبو بكر شعبة وابن عامر ويعقوب:{وضعتُ} - بضم التاء - فيكون من جملة كلامها، ويكون متصلًا بما قبله، وفيه معنى التسليم لله، والخضوع والتنزيه له من أن يخفى عليه شيء، فإنها خافت من قولها: إني وضعتها أنثى أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في رواية شاذة:{بما وضعتِ} بكسر التاء على أنه خطاب من الله تعالى لها؛ أي: إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتتضافر عندها العقول من العجائب والآيات. {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}؛ أي: وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإنَّ غاية ما أرادتْ من كونه ذكرًا أن يكون نذرًا خادمًا للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، وهذه الجملة معترضة بين المعطوف الذي هو قوله:{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وبين المعطوف عليه الذي هو قوله: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا} مبيِّنة لما في الجملة الأولى - أعني قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} - من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت: كان الذكر مطلوبي لخدمة البيت، وهذه الأنثى هي موهبة لله تعالى، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها كما مر آنفًا، واللام في الذكر والأنثى للعهد.
هذا على قراءة الجمهور وعلى قراءة ابن عباس، وأما على قراءة أبي بكر