أنبتها نباتًا حسنًا؛ أي: جعل ثمرتها مثل عيسى، وقيل: القبول الحسن: تربيتها على نعت العِصْمة حتى قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}، والنبات الحسن: الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}؛ أي: جعل الله سبحانه وتعالى زكريا مربيًا لها، وضامنًا لمصالحها، وقائمًا بشؤونها؛ أي: كَفَّلها، لا بالوحي، بل بمقتضى القرعة، كما ذكره أبو السعود. قال أهل الأخبار: أن حنة حين وضعت مريم لفتها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم يلون يومئذٍ من بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالت الأحبار: لا تقل ذلك، فإنها لو تركت لأحق الناس بها .. لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فانطلقوا، وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر جار في حلب يقال له: قرمق، فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فوق الماء، وثبت، فهو أولى بها من غيره، وعلى كل قلم اسم صاحبه، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات، ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا، ولما أخذها .. بنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطا لا يرقى إليه إلا بالسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها.
وقرأ الكوفيون (١): {وَكَفَّلَهَا} - بتشديد الفاء - على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وباقي السبعة {وكفَلها} بتخفيفها على إسناد الفعل إلى زكريا بمعنى: ضمها إليه، وقرأ أُبي:{وأكفلها} وهو بمعنى التشديد، وقرأ عبد الله المزني شذوذًا:{وكفِلها} بالتخفيف وكسر الفاء، وهي لغة، يقال: كفل يكفل كنصر ينصر، وكفل يكفل كعلم يعلم، والفعل مسند إلى زكريا، ففيه أربع قراءات ثنتان