فأبان أن المقتولين شهداء أحياءٌ عند ربهم، قد خصَّهم الله بالقرب منه والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق، وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.
وأخرج الإمام أحمد في جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
قوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ..} الآيات، لمَّا كان من فوز المشركين في أُحد ما كان، وأصاب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين شيءٌ كثير من الأذى أظهر بعض المنافقين كفرهم، وصاروا يخوفون المؤمنين، ويؤيسونهم من النصر، والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إنَّ محمدًا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارةً عليه، ولو كان رسولًا من عند الله .. ما غلب إلى نحو هذه المقالة، مما ينفر المسلمين من الإِسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف في الحزن فنزلت هذه الآيات تسليةً له كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، وقوله:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}.
قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ ..} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق ما يحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وبذل أنفسهم فيه بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم في جنات النعيم، شرع هنا يحث على بذل المال في الجهاد، والمال شقيق الروح، فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله في هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائلٌ، وأن مدى الحياة قصيرٌ، وأن الوارثين والموروثين سيموتون، ويبقى الملك لله وحده.