للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من تعيين كثيرٍ من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم من الله له، لا لكونه يعلم الغيب. وقيل (١) المعنى. وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم. وفي "الفتوحات" قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} الخ هذا استدراكٌ على معنى الكلام، المتقدم؛ لأنه لما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} توهم أنه لا يطلع أحدًا على غيبه لعموم الخطاب، فاستدراك بالرسل إزالةً لذلك الوهم، كأنه قال: إلا الرسل فإنه يطلعهم على الغيب.

والحاصل: أنه لم يكن (٢) من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب؛ إذ لو فعل ذلك .. لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبيّ، الذي تهدي إليه الفطرة، وترشد إليه النبوة.

ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس، وبذل المال في سبيل الحق، والخير، كما ابتلي المؤمنون في وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلي الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوّهم وابتلوا بظهور العدو عليهم جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالًا شديدًا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير.

ولكن الله يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما في قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}.

وفي التعبير بالاجتباء إشارة إلى أنَّ الوقوف على أسرار الغيب منصبٌ جليلٌ تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.


(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.