للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الباطل والعبث، بل كل خلقك حق مشتمل على حكَم جليلةٍ، ومصالحَ عظيمة، والإنسان بعض خلقك، لم يخلق عبثًا، فإن لحقه الفناءُ، وتفرقت منه الأجزاء بعد مفارقة الأرواح للأبدان. فإنما يهلك منه كونه الفاسدَ؛ أي: الجسم، ثم يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في النشأة الأولى، فريق أطاعَكَ، واهتدى، وفريقٌ حقت عليه الضلالة، فالأول يدخل الجنة؛ بصالح أعماله، والآخر يكب في النار، بما اجترح من السيئات، وما عمل من الموبقات جزاءً وفاقًا.

وقيل معناه (١): ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلينَ {رَبَّنَا} ويا مالك أمرنا {مَا خَلَقْتَ}، وأوجدت {هَذَا} الخلق، وأخرجته إلى الوجود من العدم {بَاطِلًا} وعبثًا ضائعًا بلا حكمة بل خلقتَهُ دليلًا على وحدانيتك، وكمال قدرتك {سُبْحَانَكَ}؛ أي: تنزيهًا لك عن أن تخلق شيئًا عبثًا لغير حكمة، وهو اعتراض، وقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء (٢) دخلت فيه لمعنى الجزاء، تقديره: إذا نزهناك. فقنا عذاب النار؛ لأنه جزاء من عصى، ولم يُطع، والمعنى: فوفقنا بعنايتك لصالح العمل بما فهمنا من الدلائل، حتى يكون ذلك وقايةً لنا من عذاب النار. والمقصود من قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} تعليم عباده كيفيةَ الدعاء، فمن أراد أن يدعو .. فليقدم الثناء على الله أولًا، ويدل عليه قوله: {سُبْحَانَكَ}، وبعد ذلك الثناء يأتي بالدعاء، ويدل عليه قوله: {فَقِنَا} {عَذَابَ النَّارِ}.

واعلم (٣): أنه تعالى لما حَكَى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله ... وأبدانَهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله؛ ذكَر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهَم عذاب النار؛ لأنه يجوز على الله تعذيبهم؛ لأنه لا يقبحُ من الله شيء أصلًا.

واعلم (٤): أن دلائلَ التوحيد في خلق هذا العالم محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائلُ الأنفس، ولا شك أن دَلائل الآفاق أعظمُ وأعجب، فلو أن الإنسان نظَر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة. رأى في تلك الورقة عرقًا


(١) الخازن.
(٢) النسفي.
(٣) مراح.
(٤) مراح.