للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

واحدًا ممتدًا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق، عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصرُ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكمًا بالغة، وأسرارًا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة .. لعجز، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقةَ الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمسِ، والقمر، والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار، والجبال، والمعادن، والنبات والحيوان .. عَرفَ أن تلك الورقةَ بالنسبة إلى هذه الأشياءِ كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير .. عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض، وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله .. لم يبقَ معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل من أن يحيط به، وصف الواصفين، ومعارف العارفين، بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكمًا بالغةً، وأسرارًا عظيمةً، ولا سبيل له إلى معرفتها، فعند هذا يقول {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} الخلق العجيب {بَاطِلًا}؛ أي: بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة، وهي أن تجعلها مساكنَ للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك، وتحرزوا عن معصيتك، ومدارًا لمعايش العباد، ومنارًا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد {سُبْحَانَكَ} وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة، بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض؛ أي: إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة. لم يعرفوا منها إلا هذا القدر، وهو أن خالِقَها ما خلقَها باطلًا، بل خلقها لحكم عجيبةٍ، وأسرار عظيمةٍ، وإن كانت العقول قاصرةً عن معرفتها {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} للإخلال (١) بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه، وفائدة هذه الفاء: هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقتَ السموات والأرض، حملهم على الاستعاذة.

ثم إنهم بعد أن يدعو ربهم أن يقيهم دخولَ النار يتوجهون إليه قائلين:


(١) البيضاوي.