قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه مسلم عن البراء بن عازب قال: مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودي محممًا مجلودًا، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال:"هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ " قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم فقال:"أنشدك باللهِ الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟؟ قال: لا والله لولا أنَّك نشدتني لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا زنى الشريف .. تركناه، وإذا زنا الضعيف .. أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه" فأمر به فرجم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول: ائتوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإنْ أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وللآيات سبب آخر أيضًا: وهو ما أخرجه أبو داود بسند رجاله رجال "الصحيح" (ج ٤/ ص ٢٨٦) عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلًا من النضير .. قتل به، وإذا قتل رجل من النضير .. يودي بمئة وسق من التمر، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل من النضير رجلًا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتوه فنزلت {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى (ج ٢/ ص ٦١) وقد يمكن أنه قد اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كلّه. والله أعلم.