بمحمد - صلى الله عليه وسلم - , لأن نعته وصفته موجودان فيهما، فإن قلت: كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نسخًا وبدلًا؟
قلت: إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته، وهذا غير منسوخ .. لأنه موافق لما في القرآن؛ أي: ولو أنهم أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين بنور التوحيد المبشرين بالنبي، الذي يأتي من أبناء إسماعيل، والذي قال فيه عيسى عليه السلام: إنه روح الحق الذي يعلمهم كل شيء (و) أقاموا (ما أنزل إليهم من ربهم) على هذا النبي الكريم الذي بشرت به كتبهم، وقيل المراد (١) به: كتب أنبيائهم القديمة، مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء، وزبور داود، وفي هذه الكتب أيضًا ذكر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}؛ أي: لوسع الله عليهم رزقهم، ولأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها وخيرها، كما قال تعالى:{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وهذه الجملة كناية عن المبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقًا وتحتًا. والمعنى: لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، قيل هذا في أهل الكتاب القائلين يد الله مغلولة، الذين ضيق عليهم عقوبة لهم، فلا يرد كون كثير من المتقين العاملين في غاية الضيق، فالتوسع والتضييق ليسا من الإكرام والإهانة، قال تعالى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} إلى قوله: {كَلَّا}؛ أي: إن الله يجعل ضيق الرزق كسعته نعمة في بعض عباده، ونقمة على آخرين، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام، ولا من تضييقه الإهانة، اهـ كرخي. وفي هذا تنبيه إلى ما أصابهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا من قصور من فيض الله وعظيم عطائه، وإشارة إلى أنهم لو أقاموهما ما عاندوا النبي ذلك العناد، فالدين عندهم إنَّما كان أماني يتمنونها، وبدعًا وتقاليد يتوارثونها، فهم بين غلوّ وتقصير، وإفراط وتفريط، ثم ذكر أنهم ليسوا سواسية في أفعالهم وأقوالهم فقال:{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}؛ أي: من أهل الكتاب جماعة مستقيمة معتدلة في أمر دينها والعمل به من غير غلو ولا تقصير،