والمعنى: وإن كان إتيانك بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم، فيؤمنون عن بينة وبرهان، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقًا تطلبه في الأرض، فتذهب في أعماقها، أو سلمًا في جو السماء ترقى فيه إلى ما فوقها، فتأتيهم بآية مما اقترحوا عليك .. فأت بما يدخل تحت طوع قدرتك من ذلك، كتفجير ينبوع لهم من الأرض، أو تنزيل كتاب تحمله من السماء، وقد كانوا طلبوا ذلك كما حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)} إلى قوله: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وقد أمره الله أن يجيبهم عن ذلك بقوله عقب هذا: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}؛ أي: وليس ذلك في قدرة البشر، وإن كان رسولًا فالرسل لا يقدرون على شيء مما يعجز عنه البشر، ولا يستطيع إيجاده غير الخالق.
وخلاصة ذلك: أنك لن تستطيع الإتيان بشيء من تلك الآيات، ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك؛ لعلمه أنه لن يكون سببًا لما تحبه من هدايتهم. والمقصود من هذا الكلام: أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم، وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر، وهذا دليل على مبالغة حرصه - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض، أو من فوق السماء .. لفعل رجاءً لإيمانهم.
ثم أكد عدم إيمانهم، فقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى {لَجَمَعَهُمْ}؛ أي: لجمع هؤلاء المكذبين لك {عَلَى الْهُدَى} جمع إلجاء وقسر، ولكنه لم يشأ ذلك، ولله الحكمة البالغة؛ أي: ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه؛ إما بأن يجعل الإيمان ضروريًّا لهم كالملائكة، وإما بأن يخلقهم على استعداد واحد للحق والخير، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات، ولكنه شاء أن يجعلهم على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت، وما يترتب على ذلك من أسباب الاختيار.
{فَلَا تَكُونَنَّ} يا محمَّد {مِنَ الْجَاهِلِينَ}؛ أي: إذا عرفت سننه تعالى في خلق