للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغوا الغاية القصوى.

ثمّ عدّد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثمّ خلق الأرض مستقرّا ومهادا؛ لينتفعوا بخيراتها، ويستخرجوا معادنها ونباتها. ثمّ بنى لهم السماء التي زيّنها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء، فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها، أفليس في كلّ هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أنّ خالق هذا الكون البديع المثال، لا ندّ له ولا نظير، وأنّ ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق، وأنّهم يعلمون ذلك حقّ العلم، فكيف يدعون غير الله من الأصنام والأحجار، ويستشفعون به، ويتوسّلون إليه مع أنّه لا خالق ولا رازق إلّا الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ...} الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا ذكر (١) أنّ الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة: متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون معرضون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك .. طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي أنّ القرآن معجزته، أن يتعرّفوا إن كان هو من عند الله كما يدّعي هو أو من عند نفسه كما يدّعون، فيروّزوا أنفسهم، ويحاكموه، لعلّهم يأتون بمثل سورة من أقصر سورة، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم، فهو لم يمرّن عليه، ولم يبار أهله، ولم ينافسهم فيه.

فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون، وإن تظاهر أنصارهم وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجنّ جميعا، فليعلموا أنّ ما جاءهم به، فأعجزهم لم يكن إلّا بوحي سماوي وإمداد إلهيّ، لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا


(١) المراغي.