بالبعوضة عبرة لأهل الدنيا، فإنّ البعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا شبعت، فكذا صاحب الدنيا، إذا استغنى طغا، وأحاط به الردى. وقال الإمام أبو منصور: الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى، في الخلق الصغير الجثّة والجسم، أكثر منها في الكبار العظام؛ لأنّ الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج من الفم، والأنف، والعين، والرجل، واليد، والمدخل، والمخرج ما قدروا عليه، ولعلّهم يقدرون على تصوير العظام من الأجسام الكبار منها، فالبعوضة أعطيت على قدر حجمها الحقير، كلّ آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القويّ.
قال بعضهم:(١) إنّ الله تعالى قوّى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الأجناس، وعرّف الخلق قدرته في خلق الضعفاء على هيئات الأقوياء، فإنّ البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره، وفي البعوض زيادة جناحين، فلا يستبعد من كرمه، أن يعطي على قليل العمل ما يعطي على كثير العمل من الخلق، كما أعطى صغير الجثة ما أعطى كبير الجثة من الخلقة، ومن العجب أنّ هذا الصغير يؤذي هذا الكبير، فلا يمتنع منه.
ومن لطف الله تعالى: أنّه خلق الأسد بغاية القوة، والبعوض والذباب بغاية الضعف، ثمّ أعطى البعوض والذباب جراءة أظهرها في طيرانهما في وجوه الناس، وتماديهما في ذلك مع مبالغة الناس في ذبّهما بالمذبّة، وركّب الجبن في الأسد، وأظهر ذلك
بتباعده عن مساكن الناس وطرقهم، ولو تجاسر الأسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس. فمنّ الله تعالى، وجعل في الضعيف التجاسر، وفي القوي الجبن، ومن العجب عجزك عن هذا الضعيف، وقدرتك على ذلك الكبير.
وتقدّم لك أنّ المراد بالبعوض هنا: الناموس، وهو من عجيب خلق الله تعالى، فإنّه في غاية الصغر، وله ستّة أرجل، وأربعة أجنحة، وذنب، وخرطوم