للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قال أهل الأخبار: لما جاء موسى لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام، ثم أتى طور سيناء، فأنزل الله تعالى ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية، وطرد عنه الشيطان وهوام الأرض، ونحى عنه الملكين، وكشط له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح، وكلّمه وكان جبريل معه لم يسمع ذلك الكلام، فاستحلى موسى كلام ربه، فاشتاق إلى رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي ...} الخ. وإنّما سألها مع علمه بأنّها لا تجوز في الدنيا لما هاج به من الشوق، وفاض عليه من أنواع الجلال، واستقر في بحر المحبة، فعند ذلك سأل الرؤية، وقيل: إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا، وتعالى الله عن ذلك.

وقال السدي: لما كلم الله موسى عليه السلام .. غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى، فوسوس إليه أن مكلمك شيطان، فعند ذلك سأل موسى ربه الرؤية اه «خازن».

وسؤال موسى (١) للرؤية يدل على أنّها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله: {لَنْ تَرانِي} يفيدا أنّه لا يراه في هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنّه لا يرى ما دام الرائي حيا في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا لا يأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، والاستدراك بقوله: {وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} معناه أنّك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه {فَإِنِ اسْتَقَرَّ} الجبل {مَكانَهُ} ولم يتزلزل عند رؤيتي له {فَسَوْفَ تَرانِي}؛ أي: فلعلك تراني وإن ضعف الجبل عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، أو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.

والمعنى: فإن (٢) ثبت الجبل لدى التجلي، وبقي مستقرا في مكانه .. فسوف


(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.