تراني، إذ هو مشارك لك في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر؛ لأنّ مادته غير مستعدة لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء، فاعلم أنّك لن تراني أيضا، وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة، وخاضعا للسنن الربانية في ضعف استعدادها، وقبولها للفناء {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ أي: رب موسى أو رب الجبل {لِلْجَبَلِ}؛ أي: ظهر له بعض ظهور وأدناه وأقله ظهورا بلا كيف {جَعَلَهُ}؛ أي: جعل ذلك التجلي الجبل {دَكًّا}؛ أي: مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا من الدك، وهو الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، هذا على قراءة الجمهور (١)، وقرأ حمزة والكسائي {دكاء} بزنة حمراء، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، والمعنى: جعله أرضا دكاء؛ أي: مستوية لا ارتفاع فيها، تشبيها له بالناقة الدكاء، وقال الزمخشري: والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. انتهى، والمعنى على هذا: جعله جبلا صغيرا كالرابية، وقرأ ابن وثاب:{دك} بضم الدال، وبالقصر جمع دكاء بالمد نحو: غز جمع غزاء، والمعنى: جعله قطعا صغارا {وَخَرَّ مُوسى}؛ أي: سقط موسى على وجهه {صَعِقًا}؛ أي: مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنّما كان للجبل دونه، فما بالك لو كان له، والمعنى: أنّه صار حاله لما غشى عليه، كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، أي: النار النازلة من السماء عند الرعد والبرق {فَلَمَّا أَفاقَ} موسى وصحا من غشيته {قالَ} موسى: {سُبْحانَكَ} يا إلهي؛ أي: تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألت؛ أي: أنزهك تنزيها من أن أسألك شيئا لم تأذن لي به {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن العود إلى مثل هذا السؤال، وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنّه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى، فتاب ورجع عما طلب، وقال مجاهد:{تُبْتُ إِلَيْكَ}؛ أي: اسألك الرؤية. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية؛ فإنّ الأنبياء معصومون، وقيل: هي توبة من قتله للقبطي. ذكره القشيري.