وأصحابه على ترك القتال عشر سنين، يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارًا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة - حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلًا بالقرب من مكة، على ماءٍ يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولمَّا علم بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. قال:"لا نُصِرت إن لم أنصركم" وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.
٢ - أنهم هَمُّوا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وطنه، أو حبسه حتى لا يبلِّغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبةٍ من بطون قريش، ليتفرق دمه في القبائل فتتعذَّر المطالبة به، إلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
٣ - أنهم بدؤوا بقتال المؤمنين في بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا وأصحابه، ونقيم في بدر أيامًا نشرب الخمر، وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما. وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم، قال:{أَتَخْشَوْنَهُمْ}؛ أي: أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفًا منكم وجبنًا {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}؛ أي: فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره، وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع .. فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجح خشيته تعالى على خشية غيره.
وخلاصة ما سلف: أنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها, لم يبق من سببٍ يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقًّا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم، وقلتكم وكثرة عددهم، وفي الآية إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب عليه أن يكون أشجع الناس، وأعلاهم همةً، ولا يخشى إلا الله.
وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم وفند الشبه المانعة من ذلك ..