وكان السبب في هذه الغزوة: ما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان - صلى الله عليه وسلم - قليلًا ما يخرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك، وذلك لبعد المسافة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليأخذ الناس أهبتهم، فأمرهم بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب، وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فجهز عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير الإبل والخيل وهي تسع مئة بعير ومئة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، حتى ما تربط به الأسقية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأنفق غيره من الأغنياء، وأول من جاء بالنفقة أبو بكر، فجاء بجميع ماله، أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله وجاء ابن عوف بمئة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فلما تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وهم ثلاثون ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وكان الخيل عشرة آلاف فرس .. خلَّف على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: عليَّ بن أبي طالب وتخلف عبد الله بن أبي، ومن كان معه من المنافقين، بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع متوجهًا إلى تبوك، وعقد الأَلوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر، ورايته العظمى للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخزرج للحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواءً ورايةً، ولمَّا نزلوا بتبوك وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرفة من مائها، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت، وارتووا هم وخيلهم وركابهم، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين ليلة، فأتاه يُحَنَّةُ - بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة، ثم تاء تأنيث - بن رؤبة - بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة - صاحب أيلة وأهدى له بغلة بيضاء فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - رداء، وصالحه على إعطاء الجزية بعد أن عرض عليه الإِسلام، فلم يسلم فكتب له ولأهل أيلة كتابًا تركه عندهم ليعملوا به