غزوة تبوك، في جملة من قعد من المخالفين، كسلًا وميلًا إلى الدعة والراحة والتمتع بطيب الثمار والتفيؤ بالظلال لا شكًّا ونفاقًا. وكانت طائفة منهم، ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه. وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء، وأرجئت أي أخرت توبة هؤلاء، حتى نزلت آية {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ}، إلى قوله:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية. ومعنى {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}؛ أي: ومن المتخلفين، ناس آخرون مؤخرون إلى أمر الله وحكمه فيهم بما شاء، وهم أولئك النفر، الذين سبق ذكرهم، وكانوا تخلفوا عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - مع الهم باللحاق به، ولم يتيسر لهم، ولم يكن تخلفهم عن نفاق. فلما قدم النبي، - صلى الله عليه وسلم - من تبوك .. قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، من الذين ربطوا أنفسهم في سواري المسجد، فنزل فيهم، قوله تعالى:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} الآية. فنهى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم، وإرسالهن إلى أهاليهن، إلى أن نزل قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} الآية. وكانت مدة ما بين نزول الآيتين، خمسين ليلة، بقدر مدة التخلف؛ إذ كانت غيبته، - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة، خمسين ليلة؛ لأنهم، لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر .. عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضت خمسون ليلة .. نزلت توبتهم بقوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} الآية.
ومعنى قوله:{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إن أصروا ولم يتوبوا من التخلف، {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا عنه؛ أي: إن أَمْرهم دَائِرٌ بين هذين، التعذيبِ والتوبةِ، وإما هنا إما للشك بالنسبة إلى المخاطبين، وإما للإبهام بالنسبة إلى الله، بمعنى: أنه تعالى، أبهم على المخاطبين كما في "السمين".
وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس، فلا يدرون ماذا ينزل بهم، هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم، كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة، كما حكم على الخالفين من المنافقين. وحكمة إبهام الأمر