للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول؛ لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ} إلا على ضرب بعيد من التأويل؛ ولأن من آمن منهم لا يقال له: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} إلا بمجاز بعيد.

ويحتمل قوله: {اذْكُرُوا} الذكر باللسان، والذكر بالجنان، فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النّعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها وفي النعمة (١) المأمور بشكرها، أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون، وإهلاك عدوّهم، وإيتائهم التوراة، ونحو ذلك قاله الحسن، والزجاج، أو إدراكهم مدّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه، وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال: أنها ما اختصّ به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكا، وأنزل عليهم الكتب المعظّمة، وظلّل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى. قال ابن عباس (أعطاهم عمودا من النّور ليضيء لهم باللّيل) وكانت رءوسهم لا تتشعّث، وثيابهم لا تبلى، وإنما ذكّروا بهذه النعم؛ لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو التوراة، والإنجيل، والزبور. وليحذروا مخالفة ما دعوا إليه، من الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن، ولأنّ تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة، وهذه النعم وإن كانت على آبائهم فهي أيضا نعم عليهم؛ لأن هذه النعم حصل بها النسل؛ ولأنّ الانتساب إلى آباء شرّفوا بنعم، تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر


(١) البحر المحيط.