للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكلام تقديره: إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد فَنَجَوا، واتبعَ الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بسبب مباشرتهم الفسادَ، وتركهم النهي عنه، فيكونُ العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم، والتسجيل عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك، لِمَا حَاقَ بهم من العذاب؛ أي: واتّبَعَ الذين تركوا النهيَ عن المنكرات، ما أنعموا فيه، واستدرجوا به من الشهوات، واشْتَغَلوا بتحصيل الرياسات، وأعرضوا عما وَرَاء ذلك من أمور الآخرة. {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}؛ أي: كافرينَ، فإن سبب استئصال الأمم المهلكة، فشو الظلم، وشُيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر.

والمعنى: أي صاروا تابعينَ للنعم التي صاروا بها مترفينَ منعمين من خصب العيش، ورفاهية الحال، وسعة الرزق، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة، واستغرقوا أعمارَهم في الشهوات النفسانية.

وجملة: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} معطوفة على: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا}؛ أي: اتبعوا شهواتِهم، وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، وهذا بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة، وهو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتباع الشهوات.

وخلاصة ذلك (١): أنَّ العقولَ السليمةَ كافية لفهم ما في دعوة الرسل من الخير والصلاح، لو لم يمنع استعمال هِدَايَتِها الافتتانُ بالترف، والنعيم، بَدَلًا من القصد والاعتدال فيه، وشكر المنعم عليه، وقد هَدَتْ التجارب إلى أنَّ التَّرَفَ هو الباعث على الفسوق والعصيانِ، والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئًا في الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء، والعامَّةِ، فيكون ذلك سببًا في الهلاك بالاستئصال، أو في فقد العزة والاستقلال، وتلك هي سنة الله في خلقه، كما قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦)}. وفي الحديث (٢): "إن الله لا يعذب العامةَ بعمل الخاصة، حتى يروا المنكرَ بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروا، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلكَ


(١) المراغي.
(٢) روح البيان.