إلا أنَّ فيها أعظمَ دليل على صبره وحِلمِهِ وأمانته، وعَدْلِهِ وحكمته، وعلمه، وعفوه، وإحسانه فَكَفَى شَاهِدًا على صبره أنَّ إخْوَتَهُ حَسَدُوه فَأَلْقَوه في غيابة الجبِّ، وأخرجَتْه السيارة، وباعوه بَيْع العبيد، وكادَتْ له امرأة العزيز، فزج في السجن، فصَبَرَ على أذى الأخوة، وكيد امرأة العزيز، ومكر النسوة إذْ عَلِمَ ما في الفاحشة من مفاسدَ، وما في العدل والإحسان من منافع، ومصالَحَ، فآثر الأعلى على الأَدْنَى، فاختار الدنيا في السجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أنْ نَجَّاه اللَّهُ ورفع قَدَرَهُ وأذل العزيزَ، وامرأتَه، وأقرَّتِ المرأة والنسوة ببراءته، ومكن له في الأرض، وكانت عاقبتُه النصر، والملك والحكم، والعاقبةُ للمتقين قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)}.
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته: فقد ظهرت جليًّا حين تولَّى الحكم في مصر أيامَ السبع السنين العِجافِ التي أكلت الحَرْثَ والنسلَ، وكادَتْ توقع البلادَ في المجاعات، ثمَّ الهلاك المحقق لولا حكمته، وعدله بين الناس، والسَّيْرُ بينهم بالسويَّةِ، وعلى الصراط المستقيم بلا جَنَفٍ، ولا مَيْلٍ مع الهَوى.
ما في قصص يوسف من عبرة
إن في هذه القصة لعبرةً أيما عبرة لعلية القوم، وساداتهم رجالهم، ونسائهم، مجانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإنَّ امرأةَ العزيز لَمْ تكن من قبل غويَّةً، ولا كانَتْ في سِيرَتها غَيْرَ عادية، لكنها ابتُلِيَتْ بحب هذا الشاب الفاتن، الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلى بَيْنَه وبَيْنَ أهلِه، فأذلَّت نَفْسَها له بمراودته عن نفسه، فاستعصم، وأبَى، وآثر مرضاةَ ربِّه، فَشَاعَ في مصر ودورها، وقصورها، ذلها له وإباؤه عليها كما قال سبحانه وتعالى:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}.
وقد ذكرنها بالوصف "امرأة العزيز" دُونَ الاسم الصريحِ استعظامًا لهذا الأمر منها, ولا سيما، وزوجها عزيزُ مصر، أو رئيس حُكُومَتِها، وقد طَلَبت الفَاحِشَة من مَمْلُوكِها، وفتاها الذي هو في بَيْتها، وتحت كنفها، وذلك أقبح