السلام، ثُمَّ مع هذه المعجزات والنعم، كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله تعالى، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسولٌ بما لا يوافقهم، بادروا إلى تكذيبه، أو قتلوه وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم، حتى حكي أنَّهم في إثر قتلهم الجماعة من الأنبياء، تقوم سوق البقل بينهم التي هي أردأ الأسواق، وأرذلها، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النَّفيسة؟ ثُمَّ نعى تعالى عليهم أنَّهم باقون على تلك العادة، من تكذيب ما جاء من عند الله، وإن كانوا من قبل مجيئه يذكرون أنّه يأتيهم من عند الله، فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه، ويعرفونه كفروا به، فختم الله عليهم باللعنة، وأنَّ سبب طردهم عن رحمة الله؛ هو ما سبق من كفرهم، وأنَّ إيمانهم كان قليلًا، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنّه سيأتي كتابٌ، ثُمَّ أخذ في ذكر ذمهم، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتَّب لهم على كفرهم بآيات الله، من المآكل، والرياسات المنقضية في الزمن اليسير؛ وأنَّ الحامل على ذلك هو البغي والحسد؛ لأن الله اختصَّ بفضله من شاء من عباده، فلم يرضوا بحكمه، ولا باختياره، فباؤا بالغضب من الله، وأَعَدَّ لهم في الآخرة العذاب الذي يذلُّهم، ويهينهم، إذ كان امتناعهم من الإيمان إنّما هو للتكبُّر، والحسد، وعدم الرضا بالقدر، فناسب ذلك أن يعذَّبوا العذاب الذي فيه صغارٌ لهم، وذلَّةٌ، وإهانةٌ، ثُمَّ أخبر تعالى عنهم أنّهم إذا عُرِضَ عليهم الإيمان بما أنزل الله، أجابوا بأنَّهم يؤمنون بالتوراة، وأنّهم يكفرون بما سوى هذا، والكتب المنزَّلة من عند الله تعالى، سواءٌ إذ كُلُّها حقٌّ يُصدِّق بعضها بعضًا، فالكفر ببعضها كفرٌ بجميعها.
ثُمَّ أخبر تعالى بكذبهم في قولهم:{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وذلك بأنّهم قتلوا الأنبياء، والتوراة ناطقةٌ باتّباع الأنبياء، والاقتداء بهم، فقد خالف قولهم فعلهم، ثُمَّ كرَّر عليهم؛ توبيخًا لهم أنَّ موسى الذي أنزل عليه التوراة، وأنّهم يزعمون أنهم آمنوا بها، قد جاءهم بالأشياء الواضحة، والمعجزات الخارقة، من نجاتهم من فرعون، وفلق البحر، وغير ذلك، ومع ذلك اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاةِ ربِّه إلهًا من أبعد الحيوان ذهنًا، وأبلدها، وهو العجل المصنوع من حُليِّهم، المشاهد إنشاؤهُ وعمله، وموسى لم يَمُتْ بَعْدُ، وكتاب الله طريٌّ نزولُه عليهم، لم