للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فاختاروا ملكين من خياركم أَهْبِطْهمُا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أصلح الملائكة، وأعبدهم، فأُهِبْطا بالتركيب البشريِّ، فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأةٍ تسمَّى بالعربية الزهرة، وبالفارسية: مِيْذَخْتَ، فطَلَباها وامتنعت إلّا أن يعبدا صنمًا، ويَشْرَبا خمرًا، ويقتلا نفسًا، ففعلا ما فعلا، فخافا على أمرهما، فعلَّماها ما تَصْعَدُ به إلى السماء، وما تنزلُ به، فصعدت ونَسِيَتْ ما تنزلُ به، فمُسخت بالكوكب المضيء في السماء الثانية، وأنَّهما تشفعا بإدريس عليه السلام إلى الله تعالى، فخيَّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ لأنَّه مؤقَّتٌ وعذاب الآخرة مؤبَّدٌ، فهما في بئر بابل مُعلَّقان فيه بشُعورهما إلى يوم القيامة، قال مجاهد: مُلىءَ الجُبُّ نارًا فجُعلا فيه، وقيل: معلَّقان بأرجلهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا أربع أصابع، فهما يعذَّبان بالعطش، وهذا الذي رُوي فيهما ليس ببعيدٍ، إذْ ليس مجرَّدُ هُبوط الملك ممَّا يقتضي العِصْيانَ، وذلك ظاهرٌ، وإلَّا لظهر من جبريل، وغيره، ألا ترى أنَّ إبليس له الشهوة والذريَّة مع أنّه كان من الملائكة على أحدِ القولين؛ لأنّها ممَّا حدثَتْ بعد أن مُحي من ديوانهم، فيجوز أن تَحْدُث الشهوة في هاروت وماروت، بعد أن أهبطا إلى الأرضِ؛ لاستلزام التركيب البشريِّ ذلك، وقد قال في "آكام المرجان": إنّ الله تعالى باين بَيْنَ الملائكة، والجنِّ، والإنس في الصورة، والأشكال، فإنْ قلَبَ الله الملك إلى صورة الإنسان ظاهرًا وباطنًا، خرج عن كونه ملكًا، وكذلك لو قلب الشيطان إلى بِنْيةِ الإنسان، خرج بذلك عن كونه شيطانًا.

وفي الحديث: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا الدُّنيا، فوالذي نفسي بيده، إنَّها لأَسْحَرُ من هاروت وماروت" قال العلماء: إنّما كانت الدنيا أسحر منهما؛ لأنّها تدعوك إلى التَّحارص عليها، والتَّنافس فيها، والجمع لها، والمنع حتى تُفرِّق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتُفرِّق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، وسحر الدنيا محبتها، وتلذُّذك بشهواتها، وتمنِّيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "حُبُّك الشيءَ يُعْمِي ويُصِمُّ" أَرَادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ من الحُبِّ ما يعمي عن طريق الحقّ والرَّشدِ، ويُصِمُّكَ عن استماع الحق، وإنَّ الرجل إذا غلب الحُبُّ على قلبه، ولم يكن له رادعٌ من عقلٍ، أو ديْنٍ أصمَّهُ حُبُّه عن