خيرٌ، فلا يتفاضل بعض الآيات على بعض في أنفسها من حيث إنّه كلام الله تعالى، ووحيه، وكتابه، بل التفاضل فيها إنّما هو بحَسَب ما يحصل منها للعباد، والخيريَّة: إمَّا في السُّهولة، كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة، بوجوب مصابرته لاثنين، أو في كثرة الأجر، كنسخ التخيير بين الصوم والفدية، بتعيين الصوم، فالأول من النسخ بالبدل الأخفِّ، والثاني من النسخ بالبدل الأثقل {أَوْ} نرسله بـ {مِثْلِهَا}؛ أي: بمثل المنسوخة في النفع، والثواب، والعمل، وذلك كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس، بوجوب استقبال الكعبة، فهما متساويان في الأجر.
والمعنى: إنّ كُلَّ آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة، والمصلحة من إزالة لفظها، أو حكمها، أو كليهما معًا إلى بدلٍ، أو إلى غير بدل، كما في إنسائها، وإذهابها عن القلوب بالكلية، كما روي عن قومٍ من الصحابة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}؛ أي: نوح إليك غيرها مما هو خيرٌ للعباد، بحسب الحال من الذاهبة، أو ممَّا هو مثلها في النفع والثواب. فكلُّ ما نسخ إلى أيسر، فهو أسهل في العمل، وما نسخ إلى الأشقّ، فهو في الثواب أكثر، أمَّا الأول: فكنسخ الاعتداد بحولٍ، ونقله إلى الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، وأمَّا الثاني: فكنسخ ترك القتال بإيجابه، وقد يكون النسخ بمثل الأول لا أخفَّ ولا أشقَّ، كنسخ التوجُّه إلى بيت المقدس، بالتوجه إلى الكعبة، وهذا الحكم غير مختصٍّ بنسخ الآية التامَّة فما فوقها، بل جارٍ فيما دونها أيضًا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب.
واعلم: أنَّ الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخًا تجوّزًا في الإسناد، بناءً على أنَّ النسخ يقع به، والمنسوخ هو الحكم المزال، والمنسوخ عنه: هو المُتعبِّدُ بالعبادةِ المُزالَةِ وهو المكلَّف، والحكمة (١) في النسخ: أنّ الطبيبَ المباشرَ لإصلاح البدن، يُغيِّر الأغذية، والأدوية، بحسب اختلاف الأمزجة، والأزمنة، كذلك الأنبياء المباشرون لإصلاح النفوس، يغيِّرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقيَّة التي هي للنفوس بمنزلة العقاقير، والأغذية