وبهما من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبًا كما قلنا مع ربه، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندًا ذلك إلى ربه، ثم ذكر الإماتة مسندًا فعلها إلى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد والإعدام، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت، وفيه مع الإقرار بهذه النعمة الاعتراف بالقدرة والإيمان بالبعث، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة.
ومنها: صحة التقسيم، فقد استوعبت هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية، والإطعام والإسقاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، والإيمان بالبعث وغفران الذنب.
ومنها: التخلص؛ وهو فن عجيب بأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في غيره آخر، وجعل الأول سببًا إليه، فيكون بعضه آخذًا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغًا، فمما جاء من التخلص هذه الآية التي تسكر العقول، وتسحر الألباب، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولًا عما يعبدون سؤال مقرّر، لا سؤال مستفهم، ثم ألحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره، وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلًا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكر الإله الذي لا تجب العبادة إلّا له، ولا ينبغي الرجوع والأنابة إلّا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم، فقال:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} على معنى أني فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا، فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلّا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال: إنهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة، فتخلص عند تصوره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات العظام، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه إلى حين يتوفاه مع