لن نَرْضى عنك، وإن أبلغْتَ في طلب رضانا حتى تتَّبعَ ملتنا إقْناط منهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخولهم في الإِسلام، فذكر الله سبحانه كلامهما، والمعنى: أي: لن ترضى عنك اليهود إلّا بالتهوُّد والصلاة إلى قبلتهم وهي المغرب، ولا النصارى إلّا بالتنصُّرِ والصلاة إلى قبلتهم وهي المشرق، ووحَّدَ الملّة؛ لأنّ الكفر ملّةٌ واحدةٌ.
{قُل} لهم يا محمد! ردًّا لقولهم لك: لن نرضى عنك حتى تَتَّبع ملّتنا، وتصلي إلى قبلتنا، بطريق قصر القلب {إِنَّ هُدَى اللَّهِ}؛ أي: إنّ دين الله الذي هو الإِسلام، وقبلته التي هي الكعبة {هُوَ الْهُدَى}؛ أي: هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ليس وراءه هدى، والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى، إنّما هو هوى، ألا ترى إلى قوله:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ}؛ أي: وعزّتي وجلالي: لئن اتبعت، وسايرت يا محمد! على سبيل الفرض والتقدير {أَهْوَاءَهُمْ} الفاسدة، وآراءَهم الزائغة، ومللهم الباطلة، وقبلتهم العاطلة، وهي التي عبَّر عنها فيما قَبْلُ بملّتهم، إذ هي التي ينتمون إليها، وأمّا ما شرعه الله تعالى من الشرعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي المعنى الحقيقيُّ للملَّة، فقد غيروها تغييرًا، والأهواء: جمع هوًى: وهو رأيٌ عن شهوة داعٍ إلى الضلال، وسُمِّي بذلك؛ لأنّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهيةٍ، وفي الآخرة إلى الهاوية.
وإنّما قال:{أَهْوَاءَهُمْ} بلفظ الجمع، ولم يقل: هواهم؛ تنبيهًا على أنَّ لكل واحد هوًى غير هوى الآخر، ثم هوى كُلِّ واحد منهم لا يتناهى، فلذلك أخبر سبحانه أنّه لا يرضى الكُلُّ إلّا باتباع أهواء الكل.
واعلم: أنّ الطريقة المشروعة تسمَّى ملّة باعتبار أنَّ الأنبياء الذين أظهروها قد أملوها، وكتبوها لأُمَّتهم، كما أنَّها تسمَّى دينًا باعتبار طاعة العباد لمن سنَّها، وانقيادهم لحكمه، وتسمَّى أيضًا شريعة باعتبار كونها موردًا للمتعطِّشين إلى زُلاَلِ ثوابه ورحمته.
{بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والبيان بأنَّ دين الله هو الإِسلام، وأنَّ ما هم عليه ضلالٌ، أو بعد ما ظهر لك الحقُّ بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، أو بعد القرآن الموحى إليك، وهو حالٌ من فاعل جاءك {مَا لَكَ} يا محمد! {مِنَ اللَّهِ}؛