اجتمعت قريش، فعجُّوا إلى الله تعالى؛ أي: رفعوا أصواتهم، وقالوا: لم تراع وقد أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإنْ كنت ترضى بذلك، وإلّا فما بدا لك فافعل، فأُسمِعوا خوّاتًا في السماء، والخوَّات: دَوِيُّ جناح الطير الضَّخم؛ أي: صوته، فإذا هم بطائر أعظم من النَّسر، أسود الظهر، أبيض البطن والرجلين، فغمز مخالبه في قفا الحيَّة، ثمّ انطلق بها تَجُرُّ ذَنبَها أَعْظَمَ مِنْ كذا وكذا، حتى انطلق بها إلى أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريشٌ على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا. وذكر عن الزهري: أنّهم بنوها حتى إذا بلغوا موضع الركن، اختصمت قريشٌ في الرُّكْن، أيُّ القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: حتى نحكِّم أوّل من يطلع علينا من هذه السكَّة، فاصطلحوا على ذلك، فاطَّلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحكَّموه، فأمر بالركن، فوضع في ثوب، ثُمَّ أمر سيّد كُلِّ قبيلة، فأعطاه ناحيةً من الثوب، ثمّ ارتقى هو على البناء، فرفعوا إليه الركن، فأخذه من الثوب، فوضعه في مكانه.
قيل: إنّ قريشًا وجدوا في الركن كتابًا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجلٌ من اليهود، فإذا فيه: أنا الله ذو مكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصوَّرت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاكٍ احتفاءً لا يزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء، واللبن. وعن أبي جعفر: كان باب الكعبة على عهد العماليق، وجرهم، وإبراهيم بالأرض، حتى بنته قريش. وعن عائشة - رضي الله عنها -: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدار، أمن البيت هو؟ قال:"نعم" قلت: فلم لَمْ يدخلوه؟ قال:"إنّ قومك قصرت بهم النفقة" قلت: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: فعل ذلك قومك، ولو حِدْثَانُهُمْ بالجاهليَّة لهدمت الكعبة، فأُلَزِقُ بابها بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدت فيه ستَّ أذرع من الحِجْر، فإنَّ قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة، فهذا بناء قريش. ثُمَّ لمّا غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير، ووهنت الكعبة من حريقهم، هدَّمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، فجعل لها بابين بابًا يدخلون منه، وبابًا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستَّ أذرعٍ، وكان طولها قبل ذلك ثماني أذرع، ولمَّا زاد في البناء مما يلي الحجر، استقصر ما كان من طولها تسع أذرع، فلمَّا