لنفسه مبينٌ، وطريق علمهما بذلك أمران، تنصيص الله تعالى بذلك بقوله:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والاستدلال بأنَّ حكمته تعالى تقتضي أن لا يخلو العالم عن أفاضل، وأواسط، وأراذل، فالأفاضل: هم أهل الله الذين أخلصوا أنفسهم لله تعالى، بالإقبال الكليِّ عليه. والأواسط: هم أهل الآخرة الذين يجتنبون المنكرات، ويواظبون على الطاعات؛ رغبةً في نيل المثوبات. والأراذل: هم أهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، جُلُّ همَّتهم عمارة الدنيا، وتهيئة أسبابها.
وقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء: أحدها: الزراعة والغرس، والثاني: الحماية والحرب، والثالث: جلب الأشياء من مصرٍ إلى مصر، ومن أكبَّ على هذه الأشياء، ونسي الموت، والبعث، والحساب، وسعى لعمارة الدنيا سعيًا بليغًا، ودقَّق في إعمال فكره تدقيقًا عجيبًا، فهو متوغِّلٌ في الجهل، والحماقة، ولهذا قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا. {وَأَرِنَا} أي بصرنا، أو عرفنا {مَنَاسِكَنَا}؛ أي: مواضع نسكنا، أو أعمال نسكنا، والمناسك: جمع منسكٍ بفتح السين وكسرها، ويحتمل أن يكون المراد به: اسم مكان، فتكون الرُّؤية حنيئذٍ بصريةً، والمعنى: بصّرنا مواضع نسكنا؛ أي: المواضع التي يتعلَّق بها النسك؛ أي: أفعال الحج، نحو: المواقيت التي يحرم منها، والموضع الذي يوقف بعرفة، ومزدلفة، وموضع الطواف، والصفا والمروة، وما بينهما من المسعى، وموضع رمي الجمار، ويحتمل أن يكون المراد به: مصدرًا لا اسم مكان؛ أي: أفعال الحج نفسها لا مواضعها، ويكون جمعه حينئذٍ لاختلاف أنواعه، وتكون الرُّؤية حينئذٍ علميَّةً؛ لأنَّ نفس الأفعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب، والمعنى حينئذٍ: وعرِّفنا أفعال حجنا، وكيفيتها من الطواف، والوقوف، والرمي، والنُّسُك: كُلُّ ما يُتعبَّد به إلى الله تعالى، وشاع في أعمال الحج؛ لكونها أشقَّ الأعمال بحيث لا تتأتَّى إلّا بمزيد سعيٍ واجتهادٍ، فأجاب (١)