البلاغة إلى الأعلى، فثنى بأشرف الحيوان، وهو الإنسان، ليستلزم ذكره بقية الحيوان، ثم ثلّث بقوله:{وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فانتقل من الخصوص إلى العموم، ليندرج تحت العموم. فسبحان منزل القرآن على ما فيه من بديع البيان.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} شبّه إزالة ضوء النهار، وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، بجامع الإزالة والتعرية في كل. فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوء، وبدت ظلمته الحالكة. واستعار اسم السلخ للإزالة والإخراج، واشتق منه {نَسْلَخُ} بمعنى نخرج منه النهار على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
وفيه من المحسنات أيضًا الطبقات بين الليل والنهار في قوله:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ}.
ومنها: في هذه الآية أيضًا التوشيح، وهو أن يكون في أول الكلام، معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرًا، أو السجع إن كان نثرًا، أو الفاصلة إن كان آية. فإن من كان حافظًا للسورة، متفطنًا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل، علم أن الفاصلة تكون مظلمون؛ لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم؛ أي: دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: {حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} فإنه شبه الهلال بالعرجون في الدقة، والتقوس والاصفرار؛ أي: في رأي العين لا في المقدار. ووجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء، ولما لم يذكر سمي مجملًا.
ومنها: تقديم المسند إليه لتقوية الحكم المنفي في قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فإنه أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، وآكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. فإن قولك: أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، أبلغ من قولك: لا تكذب، فإنه أشد في نفي الكذب من العبارة الثانية. كما مر.