كان في ذلك من حرج، فمالكٌ نشأ في المدينة، ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين؛ لأنهم لقرب عهدهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة في العمل. وأبو حنيفة نشأ في العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق؛ فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان. لعذر كل منها صاحبه فيما رأى؛ لأنه بذل جهده في بيان وجه الحق مع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخير والطاعة لأمره. ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم في سيرتهم، وحكموا الرأي والهوى في الدين، وتفرقوا شيعًا كل فريق يتعصب لرأي فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادي المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب في كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكًا أخطآ في جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذًا فكيف يمضي نحو أربعة عشر قرنًا، ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب في بعض المسائل الخلافية! فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه في تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها!.
وهذا الضرب من الخلاف، وهو تحكيم الرأي والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة، فهوت بعد رفعتها وذلت بعد عزتها وضعفت بعد قوتها.
وقد حدث مثل هذا في الفرق الإِسلامية في علم العقائد، فإن أبدى أحدهم رأيًا في مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه، وتفنيد مذهبه وتضليله، ويقابله الآخر بمثل صنيعه، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر والإطلاع على أدلته، ووزنها بميزان الإنصاف والحق. لما حدث مثل هذا الخلاف، بل اقتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.
والمسلم ما دام محافظًا على نصوص دينه، لا يخل بواحد منها مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه، لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه.
فإذا تحكم الرأي والهوى، ولعن بعضهم بعضًا، وكفر بعضهم بعضًا؛ فقد