موسى عليه السلام حالهم، فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، فينشأ الناشىء منهم، فتكون معه على مقداره وهيئته، وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر أبيض من جبل الطور، فكان إذا نزل ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عين، وأرسل الله عليهم الغمام يظللهم في التيه، ومات في التيه كل من دخله ممن جاوز عشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، ولم يدخل أريحاء ممن قال:{إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا}. واختلفوا في أنَّ موسى عليه السلام مات في التيه أم خرج منه. فقيل: إن موسى وهارون ماتا في التيه جميعًا. وإن (١) في هذا العقاب الإلهي لعبرة لأولي الألباب، يستفيدون منها، أن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستعباد تذهب أخلاقها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتأنس بالمهانة، وإذا طال عليها الأمد أصبحت تلك الصفات غرائز وطباعًا خلقية لها، كما رأينا ذلك في بعض الشعوب التي أخذها الاستئمار، كشعوب الأروميا في شرقي أفريقيا، وغيرهم ممن أخذهم واستعبدهم الاستئمار، فإذا خرجوا من بيئتهم، ورفع عنهم نير الظلم والاستعباد .. حنوا إلى ما كانوا فيه أولًا، وتاقت نفوسهم إلى الرجوع إليه، وهذا شأن البشر في جميع ما يألفون، ويجرون عليه من خير وشرّ.
وقد أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليهم بطابع الذلة والمهانة، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدًا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبيَّن لهم أنَّه أخرجهم من مصر لينقذهم من العبودية إلى نعيم الحرية، ومع هذا كله كانوا إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرًا يشق عليهم، يتطيرون بموسى، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، وحين غاب عنهم موسى عليه السلام لمناجاة ربه، اتخذوا لهم عجلًا من حليهم وعبدوه، وكان يعلم أن نفوسهم ميتة، لا تطيعهم على دخول أرض الجبارين وأن وعده تعالى لأجدادهم إنَّما يتم إذا هلك ذلك الجيل الذي