وعبارة المراغي هنا {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} هذا دعاء عليهم بالبخل وانقباض الأيدي عن العطاء، والإمساك عن الإنفاق في سبيل البر والخير، وما زالوا أبخل الأمم، فلا يكاد أحد منهم يبذل شيئًا إلا إذا كان يرى أن له من وراثه ربحًا، كما دعا عليهم بالطرد، والبعد من رحمته، وعنايته الخاصة بعباده المؤمنين.
ثم رد الله سبحانه وتعالى عليهم ما قالوه، وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء، وأن كل ما في العالم من خير هو سجل من ذلك الجود فقال:{بَلْ يَدَاهُ} سبحانه وتعالى {مَبْسُوطَتَانِ} لا مقبوضتان {يُنْفِقُ} ويعطي {كَيْفَ يَشَاءُ} ويريد من بسط وتضييق لمن يشاء؛ أي: بل هو الجواد المتصرف وفق حكمته وسننه في الاجتماع وتقتير الرزق على بعض العباد، لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق، فإن شاء وسع وإن شاء قتر، فهو الباسط القابض، فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة، لا لشيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى، وعبر عن سعة الجود ببسط اليدين, لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه، كما قال الأعشى يمدح جوادًا:
وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء، فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة، وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام، والتقدير: ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل، بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال، فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود.